فى القناطر

يارب........... احفظها..................يارب

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

الخميس، 11 يونيو 2009

الأجهزة الأمنية

فوق أم تحت القانون أم على هامشه

الستاذ/عماد قزامل

في السابق طبع ممارسات الأجهزة الأمنية ببلادنا نمط الاعتقال التعسفي بدون محاكمة و نهج التعذيب كأسلوب سائد لعملها في وقت لم تكن النصوص القانونية ولا الظروف تسمح باللجوء إلى قضاء عادل نزيه من أجل التثبت من الخطأ و التعويض عن الضرر. فهل هذه الأجهزة الأمنية لها حصانة مكنتها من التصرف في حياة البشر كما شاءت و أرادت بدون حسيب و لا رقيب؟

لقد طفت على السطح شهادات عديدة عن تجاوزات هذه أجهزة و انتهاكاتها الجسيمة لجملة من حقوق الإنسان الأساسية. و تتعقد إشكالية التطرق إلى النصوص المنظمة لهذه الأجهزة بفعل عدم نشرها, علاوة على أن هذه النصوص تجعل هذه الأجهزة و أفرادها و ملفاتها مشمولة بحصانة مبدئية من الصعب التنازل عليها. و يبدو أن الغموض الذي يلف بالنصوص المنظمة للأجهزة الأمنية سببه الرغبة المشروعة في عدم الكشف عن طرق عملها لاسيما و أنها تضطلع بمهام الحفظ على أمن البلاد و خصوصا الخارجي منها. و مهما يكن من أمر يظهر أنه مازالت هناك صعوبات جمة قائمة في وجه مقاضاة الأجهزة الأمنية كطرف قانوني له شخصية معنوية تترتب عليه مسؤولية الأخطاء المرتكبة و ذمة مالية يمكن التنفيذ عليها.

فلا يخفى على أحد أن الاعتقال بدون محاكمة و المعاملة المهينة أثناء الاعتقال و التعذيب الذي قد يكون تعرض له المواطن تنشئ مسؤولية جرمية. و في هذه الحالة فهل "الحصانة الفعلية" التي يتمتع بها العاملون بتلك الأجهزة من شأنها أن تجهض أي مجهود و جهد جديين إلى التحقيق في النازلة و بالتالي عرقلة تحريك الدعوى العمومية في هذا الصدد؟

و في هذا المجال تتأسس الدعوى بالمطالبة بالتعويض عن خطا تسبب عنه ضرر يستحق من أجله الطرف المتضرر التعويض. و تعتمد هذه الدعوى على قاعدة وجوب التعويض عن الخطأ, و هذه قاعدة واضحة في القانون المدني, لاسيما و أنه تصرف يستوفي أركان الخطأ, إذ أنه خطأ منسوب لإحدى أجهزة الدولة و هو أصاب شخصا و سبب له ضررا و أن هناك علاقة سببية بين الخطأ المرتكب و الضرر الحاصل. وهذا الخطأ هو عمل غير مشروع و ينصرف معناه إلى مجرد الإهمال و الفعل العمد على السواء. كما أنه فعل يختلط فيه الخطأ الشخصي لكل عنصر من عناصر الأجهزة الأمنية تعرض للمواطن المتضرر من قريب أو من بعيد أثناء مدة احتجازه سواء بإهانة أو سوء معاملة أو تعذيب نفسي أو جسدي مع خطأ الجهاز ككل و كمرفق أو إدارة تابعة للدولة. و هذه كلها أخطاء توصف بالخرق المنهجي للمبادئ العامة للمعاهدات و المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان المصادق عليها من طرف بلادنا. و هذا الخرق المنهجي هو في واقع الأمر خرق ليس بالبسيط و إنما هو خرق مركب يتعلق بالاعتقال التعسفي و استمرار الاحتجاز بدون وجه حق و بالمعاملة المهينة أثناء الاعتقال و بممارسة التعذيب أمرا و فعلا.

و الاعتقال التعسفي و الاحتجاز بدون وجه حق هو خرق واضح و جلي لمقتضيات الدستور التي تقر بعدم اعتقال أي شخص إلا وفقا للقانون و حسب المساطر المنصوص عليها قانونيا, علاوة على أنه يشكل انتهاكا سافرا للمادة التاسعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و للفقرة الأولى من المادة التاسعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية. و بكلمة انه خرق لصلب القيم الضامنة لكرامة الإنسان. كما أن استمرار الاحتجاز بدون وجه حق يعتبر انتهاكا صارخا للحرية التي يعتبرها الدستور حقا مقدسا باعتبار أن الدستور يكفل للمواطن المحافظة على حريته و كرامته و أمنه. ناهيك عن الخروقات المتعلقة بالمعاملة المهينة و ممارسات التعذيب المعنوي و الجسدي, و هي أفعال تتنافى مع جميع مقتضيات مبادئ و قواعد الاتفاقيات و المواثيق الدولية و تضرب عرض الحائط روح و لب القانون الإنساني الدولي بامتياز.

وللإشارة فقط فان الفقرة الثانية من المادة التاسعة للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية توجب إخبار و إعلام كل مقبوض عليه بأسباب الاعتقال عند القيام به و على وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه. كما توجب المادة العاشرة من هذا العهد بأن يعامل كل شخص تعرض للحرمان من حريته مؤقتا بمعاملة إنسانية مقرونة بالاحترام اللازم لكرامة الإنسان الأصلية. كما تنص المادة 13 منه بتمكين كل معتقل من الضامانات الدنيا لكرامته كحقه بإعداد دفاعه و بمحاكمته محاكمة عادلة.

و لا داعي للتذكير بأن المبادئ العامة لدولة الحق و القانون هي مبادئ ذات الطبيعة الآمرة تمتاز بدرجة من السمو يمنع المساس بها في أي ظرف من الظروف و ذلك اعتبارا لاتصالها الوثيق بقيم حرية الإنسان و كرامته.

إذن, و مادام الأمر كذلك فلا مجال للشك فيما يخص أحقية المواطن المتضرر بالتعويض, و هي أحقية تتأسس بالاستناد إلى المادة التاسعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية التي تنص على ما يلي : "لكل إنسان يتعرض للقبض أو الاعتقال بصورة لا قانونية حق لازم بالتعويض".

إلا أنه يبدو أن مسالة حصانة الأجهزة الأمنية تقف حجرة عثرة أمام المطالبة بهذا الحق الأكيد و تجعله أمرا صعبا يكاد يكون مستحيلا. إن مسألة حصانة العاملين بتلك الأجهزة من شأنها أن تعترض بشكل أو بآخر لأي دعوى لمقاضاة أي جهز أمني. و بذلك فان دعوى من المواطن المتضرر ستصطدم بألف عقبة و عقبة, لاسيما وأن هذه الحصانة يتم ربطها و بطريقة مهولة بطبيعة المهام الموكولة لتلك الأجهزة, فالعاملون بها يسهرون على واجب الحفاظ على أمن البلاد و سلامتها ضد الأخطار. و في هذا الصدد يقال أن هؤلاء في حاجة لحصانة شخصية و لحصانة أجهزتهم لتمكينهم من الاضطلاع بمهامهم الصعبة. الا أن كل هذه الاعتبارات تظل أقل أهمية أمام اشكالية خرق مقتضيات أقرها الدستور و المواثيق و المعاهدات الدولية, علما أن مختلف النصوص المنظمة للأجهزة الأمنية لا يمكن الاحتجاج بها بأي شكل من الأشكال ضد المواطن المتضرر.

و تظل مسألة إثبات الوقائع و توفير الأدلة من القضايا العويصة التي تواجه المواطن المتضرر. لاسيما و أن هذه الأجهزة تتمتع بسلطات واسعة الشيء الذي يجعلها قادرة, و بكل سهولة, على عدم ترك أي أدلة إثبات على وقائع الاحتجاز القسري أو التوقيف التعسفي أو الاستمرار الاعتقال بدون محاكمة أو المعاملة المهينة أو ممارسات التعذيب الجسدي و المعنوي. إن ما يميز ممارسات الأجهزة الأمنية اليومية هو حدوثها بشكل لا يتقيد بحدود الضمانات ( وهي تستحق لتوصف هي كذلك بالخطوط الحمراء الفعلية و ليس المفتعلة أو الوهمية) المنصوص عليها في القانون في أحوال الاعتقال حتى العادية منها. فالحصانة الفعلية التي تتمتع بها هذه الأجهزة و سرية عملها يجعلها تتحرك بدون رقابة و بشكل مواز لعمل مختلف المؤسسات المرتبطة بالقضاء العادي. فقد يقع اعتقال بدون شهود عيان و في ظلمة الليل و بدون علم أقارب و معارف المعتقل, كما يمكن أن يستمر الحجز بدون أن يثبت اسم المحتجز في أي سجل من السجلات الرسمية. كما قد يتعرض المعتقل لأنواع من التعذيب و ألوان من الإهانات دون أن يكون بالامكان تحديد مكان وقوع تلك الممارسات المشينة و دون التعرف على الأشخاص الذين اقترفوا تلك الأفعال.

و بذلك فان البحث عن آليات و وسائل إثبات الحجز التعسفي و الاعتقال بدون وجه حق و المعاملة المهينة و ممارسة التعذيب المعنوي و الجسدي قد يكون صعبا بمكان, بل و قد يكون غالبا مستحيلا بسبب العتمة و الغموض اللذان يكتنفان أساليب عمل الأجهزة الأمنية و سجلاتها.

لقد سمحت تجربة العديد من المعتقلين السياسيين و المختطفين التعرف على جملة من الملابسات و ساهمت إلى حد كبير في تكوين صورة تقريبية دقيقة أحيانا عن الممارسات التي يتم استخدامها من طرف الأجهزة الأمنية, إلا أنه يجب التذكير بضرورة عدم الخلط بين المعرفة و التجربة من جهة و أدلة الإثبات من جهة أخرى, لاسيما و أن ما يدركه الضحية في تجربته الشخصية و الجماعية لا يمكن أن يشكل دليلا قاطعا يمكن الاعتداد حسب البعض. و لم يسبق لنا أن عاينا قبول دعوة استنادا على ذلك رغم قوة و وضوح القرائن. علما أن المحكمة قد تعتبر تلك التجربة وصفا مبالغ فيه من قبل المتضرر و تطالب بحاجتها للاستكانة إلى أدلة ملموسة.

فعلا, إن الحصانة الفعلية التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية تجعل من الصعب الحصول على أدلة تبين الظروف و الأوضاع التي قبع تحتها المتضرر. و في واقع الأمر غالبا ما تشكل استحالة تقديم الأدلة عائقا كبيرا في وجه المطالبة بالمحاسبة و بالتعويض عن أخطاء الأجهزة الأمنية. و قد تعج دعوى المتضرر بالأدلة التي تثبت الانتهاك و لكنها يمكن أن تظل غير كافية في نظر البعض عندما يتعلق الأمر بإثبات خطأ الجهاز الأمني أو عضوه المعني بالأمر.

لكن قد يكون من الممكن الاعتماد على شهادات متضررين آخرين لإثبات التجاوزات إلا أن هذا المنحى من الصعب قبوله. و علاوة على هذا و ذاك فغالبا ما يتم التستر وراء حالة الطوارئ أو حالة الاستثناء لتبرير ظروف الاحتجاز الاستثنائي, و بذلك يمكن إيقاف العمل ببعض القواعد القانونية الضامنة للحقوق الأساسية للأفراد من أجل التصدي لأخطار محدقة بأمن الدولة و كيانها, علما أن المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية أجازت ممارسة الدولة لحق عدم التقيد بالالتزامات المترتبة عليها بموجب العهد في حالات الطوارئ المعلنة رسميا و حسب مقتضيات الدستور.

كما ل أن القائمين على الأجهزة الأمنية قد يعتبرون من حقهم رفض المقولة القائلة بأن حقوق الإنسان التي نصت عليها المواثيق و العهود الدولية تشكل مبادئ عامة في القانون و هي مطابقة لقيم تشكل مصدرا أخلاقيا لهذه القواعد و بالتالي فإنها تبقى واجبة التطبيق تحت أي ظرف من الظروف.

و هكذا نكون أمام إشكاليتين. أما الإشكالية الأولى فهي المتعلقة بتحديد ما إذا كانت القاعدة القانونية تستمد قوتها الملزمة, من حيث المبدأ, من تطابقها مع قيم أخلاقية معينة. فقد تعتبر الأجهزة الأمنية بأنه لا أثر لبعد أو قرب أية قاعدة قانونية من قيمة أخلاقية في صحتها كقاعدة ملزمة, اعتبارا لتعدد القيم الأخلاقية و اختلافها حسب المجتمعات. و في هذا الصدد فان القانون الوضعي وجد أصلا ليحكم علاقات للأفراد كافة ضمن دستور ساري المفعول, و كل القواعد القانونية عليها الاستناد إلى الدستور.

أما الإشكالية الثانية فهي المتعلقة بالقول بأن التطابق مع قيم أخلاقية سامية يجعل هذه القواعد آمرة لا تجوز مخالفتها تحت أي ظرف.

و في هذا الصدد يمكن للأجهزة الأمنية أن تعتبر أن عالمية القيم المرتبطة بحقوق الإنسان لا تعني إغلاق الأبواب أمام الخصوصيات و وجهات النظر المحلية في فهم مضمون و فحوى تلك الحقوق التي تظل متأثرة بخصوصيات تاريخية و ثقافية مختلفة.

و مهما يكن من أمر فان التعددية في فهم حقوق الإنسان هي في الحقيقة عامل من عوامل غناء حقوق الإنسان و ليس العكس. لأنه لا مجال للتشكيك في إلزامية قيم سامية كحق الإنسان في الحياة و الحرية تحت أي ظرف من الظروف بما في ذلك حالة الطوارئ أو حالة الاستثناء. علما أنه من المعروف أن قيم الحرية و الكرامة لم تفرض نفسها يوما بشكل قسري على الثقافات الإنسانية المتعددة, و إنما هي قيم تأصلت مع تطور الفكر الإنساني على امتداد التاريخ البشري و تجربة الشعوب الطويلة العريضة. و هي قيم أكدت نفسها باستمرار و على الدوام في مختلف الدساتير المغربية حتى القديمة منها. فحتى في حالة الاستثناء تظل هذه القيم فاعلة, لاسيما و أن الحواجز المنصوبة ضد احتمال التعسف ظلت قائمة و حاضرة على الدوام بشكل أو بآخر, و هذا دليل على استمرار وجود تلك القيم و فاعليتها تحت أي ظرف من الظروف.

و مجمل القول أنه إذا كانت المنظومة القانونية المغربية تسمح نظريا بإعمال آليات قضائية تسمح بجبر الضرر فإنها لازالت عاجزة كليا و فعليا عن استخدام تلك الآليات على علتها بشكل طبيعي و منظم.


الاستاذ/عمادقزا

ليست هناك تعليقات: